البن اليمني لماذا؟

28 أغسطس 2024

اسمي حسين أحمد، وأعمل في تجارة وإنتاج البن اليمني منذ عام 2008. أنا مؤسس "موكا هنترز" لتصدير البن اليمني، والتي تشمل محمصة ومقهى مختص، ومقرها صنعاء.

في إحدى رحلاتي في عام 2009، كنت أبحث عن كنوز البن النادرة وأكتشف هذا العالم الغامض الذي لم نكن نسمع عنه إلا كأنه أساطير. هذه الأساطير جاءت إلينا من الآباء والأجداد وتوارثناها منهم. في صباح باكر على سفح أحد جبال بني مطر غرب صنعاء، قابلت رجلاً في الستين من عمره، يبدو عليه الحكمة والحنكة التي تراكمت عبر سنوات طويلة. في تلك المنطقة، التي يمكن وصفها بالجنة في موسم المطر الصيفي وتصبح جرداء في الشتاء، كان هذا الرجل يستمتع بشمس الصباح الباكر في بداية موسم الشتاء.

دار بيننا حديث طويل، وقد أخبرته أن كل مناطق البن التي زرتها يدعي أهلها أن منتجهم من البن هو الأفضل في اليمن. فقال لي مبتسمًا، بينما كانت أشعة الصباح الباكر تلامس وجه الحكيم: "القهوة كالنساء، كلهن جميلات، ولكن لكل واحدة منهن سحرها الخاص."

بعد هذا الحوار اللطيف تأملت كثيرا وقضيت شهور طويلة ازور مناطق زراعة البن التي تمتد في وديان وسفوح جبال اليمن من حدودنا في الشمال الى تلك الجبال التي تقف شاهقة على مدينة عدن ومن المرتفعات الغربية التي ترتطم مع سهول تهامة وكأنهن في رقصة فلمنكو, إلى تلك الهضاب التي تمتد وتلتحم بالصحراء في شرق اليمن.

وكان هناك في خاطري دائما تساؤلات كثيرة لماذا البن اليمني مشهور؟ ماذا حصل لهذا المنتج الأسطوري؟

كيف تدهور ؟وأصبح منتج جانبي في اليمن؟ ماذا حصل للبن اليمني في العقود الأخيرة؟

سوف احاول ان اكتب عن رأيي الشخصي وأجيب عن تلك التساؤلات.

لماذا البن اليمني فريد في المذاق؟

اولاَ الفصائل

الفصائل المميزة التي نمت وتطورت في اليمن عبر قرون طويلة وحصل لها طفرات جينية لتواكب الجو اللطيف بارد ليلا, معتدل نهارا

يوجد لدينا عدد من الفصائل للقهوة ويختلف الناس في تسميتها من مكان إلى آخر وغالبا تسمى باسم مناطق زراعتها

الفصائل الرئيسية , العديني , البرعي , التفاحي والدوائري ويوجد فصائل أخرى وللأسف لا يوجد توثيق علمي في اليمن كامل مبني على أبحاث جينية .

اما الاسماء المحلية فينسب البن إلى المنطقة التي نما فيها بغض النظر عن نوع الفصيلة .

مثال الحوار, الحرازي , الحيمي , الريمي , البرعي, الحفاشي , الآنسي , الملحاني , الحمادي , اليافعي , الخولاني , المطري وهكذا .

هذه الفصائل لكل نوع ميزات فبعضها يحتاج ان يكون قريب مصادر الماء وفي الوديان و بعضها يحتاج الى الظل الشجري والأخرى يتحمل العطش والجفاف , ولذلك قد تجد جميع الفصائل من البن اليمني في نفس الوادي والجبال المحيطة به.

وقد عمل الأجداد على اختيار افضل الانواع والفصائل التي تنتج بن لذيذ وذلك لمحدودية المساحات الزراعية.

ثانيا

Terroir

ربما يجب علي أن أستخدم هذا المصطلح الفرنسي الذي يربط بين المناخ, التضاريس, التربة والتقاليد المحلية في الزراعة وهذا ماجعل البن اليمني فريد ومميز.

ينمو البن اليمني في سفوح الجبال البركانية على ارتفاع من 1200 الى 2200 متر فوق سطح البحر في مدرجات زراعيه استغرق بنائها عشرات الأجيال كما ايضا يمتد الى الأودية التي في الغالب تكون تحت هذه الجبال وعندما تقف وتشاهد تلك المدرجات الزراعية التي شيدها السلف الأول لا تتوقف افكاري عن حجم الجهد البدني والطاقة التي بذلها الإنسان المحلي لتشييد تلك المعالم الفريدة.

ولكن لا اتعجب عند مشاهدتي لتلك الديار والمنازل الشاهقة التي بنيت في القرون الماضية في القمم تطل على مزارع البن ك الحراس فقد جلبت هذه المزارع انهار من الفضة الأوربية لهم في عصور ذروة زراعة البن في اليمن واحتكار اليمن لهذا المنتج لقرون.

الارتفاع لمناطق زراعة القهوة يلعب دور كبير في جودتها في الارتفاع يجعل من كرزات البن تنضج ببطء وتكون كثافتها أعلى و تأخذ وقت أطول في العادة يبدأ الحصاد في الوديان 1200 الى 1700 متر فوق سطح البحر في اخر شهر سبتمبر أما المناطق الأكثر ارتفاعا فيستمر الحصاد إلى آخر ديسمبر واذا تأخر المطر في الربيع و تأخر الأزهار للأشجار فقد يستمر الحصاد إلى شهر يناير وفبراير.

يمنح الارتفاع إيحاءات فريدة للبن فتكون زهرية فكاهيه وحموضة موزونه على حلاوة وقوام مميز.

في هذه الأرض التي تطل على البحر الأحمر غربا وبحر العرب جنوبا وصحراء بلا نهاية شمالاَ وشرقاَ

تأتينا هبة السماء من الأمطار في موسمين امطار الصيف , مارس , أبريل ومايو وامطار الخريف جولاي , أغسطس وسبتمبر

وهذا التوقيت مهم جدا لجعل منتجاتنا الزراعية فريدة فبعد موسم الشتاء القارص التي قام المزارعين بتعطيش أشجار الفواكه ومنها البن يأتي الخير على شكل مطر في الجزء الأخير من شهر مارس وأول أبريل وتزهر الأشجار وتفوح الجبال والوديان بعبق الزهور زهرية اللون وعندما تزور تلك المناطق تحس انك غطست في قنينة عطر.

فلا أتعجب إن كان لنا دور في انتاج وتجارة البخور والعطور في حقب زمنية خلت.

تلك المدرجات في المنحدرات التي يزرع فيها البن قد تكون وجهتها الجهة الشرقية, الغرب, الجنوب او الشمال ولكل وجهة ميزات ونكهات خاصة بها .المدرجات التي تود الشمس عند غروبها تكون غالباَ فيها إيحاءات كرزية وتوت .

أما تلك التي تعانق الشمس في الصباح فيطغى عليها إيحاءات الزهور, الياسمين, الورد والتفاح الأحمر.

تلعب زواية الانحدار للمدرجات دور كبير في جودة البن فغالبا يمر ماء المطر وتاخذ الشجرة حاجتها فقط ولذلك يكون البن اليمني دائما منعش وغير باغر

تأقلمت الأشجار وطورت نفسها بحيث تتأقلم مع تلك المدرجات و الظروف الفريدة التي تنمو بها.

بما أن الحيازات الزراعية صغيرة يقوم المزارعون بقطف كرزات البن في موسم الحصاد على مراحل وتجفيفها على أسطح المنازل ويوجد طرق قديمه في بعض الأماكن التجفيف الظلي في الكهوف في بني مطر غرب صنعاء. والملاحظ أن كل ما ارتفع المنطقة والجو اللطيف غير الرطب تكون عملية

التجفيف افضل خاصة اذا استطاع المزارع أن يجعل عملية التجفيف تمتد إلى أكثر من أسبوعين ليصل الى مستوى الرطوبة المطلوبة .

بعد ان تجف كرزات البن يقوم المزارعين بحفظها في اكياس و اماكن خاصة في منزلهم.

لن نتطرق الى موضوع بيع وتجميع البن من التجار المحليين في مناطق زراعته وشبكة طرق التجارة للبن اليمني التي يصل عمرها مئات السنوات فهذا موضوع سوف اكتب عنه في مدونة في وقت لاحق.

ما سبق كانت نبذة مختصرة عن ما يميز البن اليمني

اذا ماذا حدث لهذا المنتج الأسطوري؟

في أوج تجارة و زراعة هذا المنتج والطلب العالي عليه من كل الأسواق العالمية, انتشرت زراعته في اليمن كالنار في الهشيم لا توجد إحصائيات دقيقة ولكن أي مكان كان يناسب زرعته فقد زرع اليمنيون هذه الشجرة النبيلة.

ولدي شخصياَ طريقة لمعرفة مقدار انتعاش زراعة البن في أي منطقة يمنية هي تلك البيوت المشيدة في الجبال الشاهقة التي تطل على المدرجات والوديان فكلما كانت بيوت جميلة وكبيرة وشاهقة فهذا يعني أنها شيدت في العصر الذهبي عند احتكارها لهذا المحصول الذي سحر العالم .

في المراحل الأولى في ازدهار زراعة القهوة وتجارتها من الميناء الشهير المخاء , كان الطلب العالي جدا لدرجة أن المزارعين كانوا يبيعون كل المحصول ويشربون قشر القهوة ومع مرور الوقت تحول قشر القهوة إلى المشروب الوطني الأول خاصة في المرتفعات الجبلية .

صعب وصف هذا المشروب بالكلمات ولكن يمكن القول ان هو النسخة العربية للويسكي بدون عنصر كحول.

لونه الذهبي وطعم الشعير على حلاوة الكرز المجفف مع نهاية خشب الصندل والقرفة وقوام فريد مشروب خرج من عالم اَخر .

الى وقتنا الحالي يشربه الناس في الريف طوال اليوم يمكن تشبيهه بالشاي الاخضر في الريف الياباني

لا توجد أبحاث علمية كثيرة عنه و لكن بلا شك يحتوي على الكافيين فقد جربته مرة مركز تحت ضغط مكينة الإسبريسو وقد سهرت 24 ساعة بعدها.

تحول القشر الى المشروب الوطني كان له أثر كبير في تغير جودة القهوة اليمنية فأصبح المزارع يقطف كرزات البن وهي صفراء من اجل ان تصبح ذهبية بعد جفافها. والسوق يدفع أكثر للقشر الذهبي

اذا لم يكتمل نمو كرزات القهوة يفقد كثير من قيمته التجارية عالميا ويخفض ووزن الحبوب الخضراء القهوة

تحولت حبوب القهوة في فترة ما إلى منتج جانبي والمنتج الرئيسي من شجرة القهوة كان القشر الذهبي.

ايضا عند عملية فصل القشرعن حبوب القهوة الخضراء من كرزات القهوة الجافة وحتى ينتج قشر جيد يتم ترطيب كرزات البن الجافة بالماء وهذا كان يلعب دور سلبي في جودة حبوب القهوة الخضراء.

بحيث كان تصل حبوب القهوة الخضراء نسبة من الماء الذي استخدم في الترطيب لكرزات القهوة الجافة ووصل الرطوبة لحبوب القهوة يخل في جودتها ونكهتها.

تدهورت تجارة و زراعة البن اليمني لأسباب كثيرة منها تغيرات سياسية واقتصادية ووصول أشجار القهوة إلى العالم الجديد وتغييرات كثيرة لم يستطع هذا المنتج أن يحافظ على موقعه الاقتصادي محلياً وخارجياَ.

ظهور الوقود الأحفوري في دول الجوار رغم الإيجابيات الكبيرة التي جلبها لشعوب تلك المناطق الى انه كان أهم سبب لتدهور جودة وزراعة البن اليمني للأسباب التالية

من بداية المنتصف الأخير من القرن المنصرم هاجر كثير من شباب يافعين للبحث عن فرص عمل في دول الجوار الغنية بالنفط تاركين مناطقهم الزراعية

لان الزراعة وخاصة المحاصيل النقدية لم تعد تعود عليهم بالفائدة خاصة وأن الأسواق الرئيسية للبن اليمني اوربا وامريكا ودول آسيوية أصبحت تستورد القهوة من دول اخرى ارخص.

الهجرة الكبيرة للشباب خلقت فجوة معرفية عميقة في زراعة القهوة فلم يستطيع الأبناء المهاجرون اكتساب المعارف والخبرة من ابائهم المزارعين.

في نفس الوقت أصبح أكثر من 70% من صادرات البن تذهب لدول الجوار الغنية ومجتمعاتها كان في ثقافتهم خلط البن بالبهارات منها الهيل والزنجبيل وامور اخرى لان في المراحل الاولى من وصول البن إليهم كانوا فقط يستطيعون ان يحصلوا على قهوة اقل جوده وضروري تحسين الطعم بالبهارات.وكان نخبة القهوة تذهب الى اوربا وامريكا.

وأصبحت هذه عادة برغم تغير الوضع الاقتصادي وهذا انعكس على البن اليمني بحيث لم يعد المزراع يهتم بالجودة لان التجار المحليين لا يقيمون البن بالجودة كما في السابق فقط يهتم بالوزن بغض النظر عن الجوده .

ومن الطبيعي ان المزارع اليمني الذي استمر في زراعة القهوة وحبه لهذه النبتة الفريدة كافح من أجل بقائها حية.

لحسن الحظ احتفظ اليمنيين بأفضل الممارسات الزراعية التي توارثوها عن اجدادهم وابائهم برغم الهجرة والسوق الغير عادل لهم.

منذ الستينات من القرن المنصرم ووصل خطوط الطرق المعبدة والربط بين المدن والريف الزراعي ونمو السكان المتسارع

انتشر شجرة القات التي لها وقع خاص في نفوس اليمنيين فهى شجرة لطيفة و يمضغها الناس في أوقات ما بعد الظهيرة ولها مزاج فريد .

لكن مع الطرق المعبدة والطلب المتزايد على شجرة القات وسرعه التوصيل واستخدام المبيدات تحول هذه الشجرة اللطيفة الى شيطان او بالأصح مارد يدمر ويعيث بالارض فساد وأهم الضحايا لهو من غير الإنسان كانت شجرة القهوة .

وقد استحوذت شجرة القات على مساحات زراعية كبيرة جدا وفي عقود قصيرة استنزفت المياه الجوفية التي تجمعت في مئات الآلاف من السنوات.

هذه نبذة مختصرة عن ماذا حصل للبن اليمني في العقود الماضية, ولكن منذ بزوغ الانترنت وتبعها الشبكات الاجتماعية, افتتح باب جديد للمنتجات العريقة ويتلهف العشاق للأكل, المشروبات ومنها القهوة بالطبع لتجربة أنواع جديدة وفريدة.

نستطيع ان نقول اننا فتحنا صفحة جديدة للقهوة اليمنية مع العالم. لعشاق البن اسئل في مدينتك عن البن المختص زور المقاهي تلك التي تملك أدوات التحميص واطلب بن يمني.

تجفيف البن في بني مطر في مزراع الحبري طلب خاص لموكا هنترز